الحج
الزيارات:

Unknown | 7:58 ص | كن أول من يعلق!

الحج



قال اللّه تعالى: " إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ (1) مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ " [آل عمران: 96، 97].
تَعْريفُه: هو قصد مكة لأداء عبادة الطواف، والسعي، والوقوف بعرفة، وسائر المناسك؛ استجابة لأمر اللّه وابتغاء مرضاته، وهو أحد أركان الإسلام الخمسة، وفرض من الفرائض التي عُلِمتْ من الدين بالضرورة، فلو أنكر وجوبه منكر، كفر وارتدَّ عن الإسلام، والمختار لدى جمهور العلماء، أن إيجابه كان سنة ستّ بعد الهجرة؛ لأنه نزل فيها قوله تعالى: "وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ " [ البقرة: 196]. وهذا مبني على أن الإتمام يراد به ابتداء الفرض.
ويؤيد هذا قراءة(2) علقمة، ومسروق، وإبراهيم النخعي، بلفظ: " وأقيموا *. رواه الطبري بسند صحيح. ورَجّح ابن القيم، أن افتراض الحج كان سنة تسع أو عشر.

فضله

رغّب الشارع في أداء فريضة الحج، وإليك بعض ما ورد في ذلك: 

*ما جاء في أنه من أفضل الأعمال.

عن أبي هريرة، قال: سئل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، أي الأعمال أفضل ؟ قال: "إيمان بالله ورسوله". قيل: ثمَّ ماذا ؟ قال: "ثم جهاد في سبيل الله". قيل: ثم ماذا ؟ قال: "ثمَّ حَج مَبْرُور"(1). والحج المبرور؛ هو الحج الذي لا يخالطه إثم. وقال الحسن: أن يرجع زاهداً في الدنيا، راغباً في الآخرة.
ورُوي مرفوعاً بسند حسن: "إن بره إطعام الطعام، ولين الكلام"(2).

*مـا جــاء فـي أنـه جهــاد

1ـ عن الحسن بن علي _ رضي اللّه عنهما _ أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إنّي جبان، وإني ضعيف. فقال: "هلمَّ إلى جهاد لاشوكة فيه؛ الحج". رواه عبد الرزاق، والطبراني، ورواته ثقات(3).
2ـ وعن أبي هريرة، أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: "جهاد الكبير والضعيف والمرأة الحج"(4). رواه النسائي بإسناد حسن.
3ـ وعن عائشة _ رضي اللّه عنها _ أنها قالت: يا رسول اللّه، نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد ؟ قال: "لكُنَّ أفضل الجهاد؛ حَجّ مبرور"(5). رواه البخاري، ومسلم.
4ـ ورويا عنها، أنها قالت: قلت: يا رسول اللّه، ألا نغزو ونجاهد معكم ؟ قال: "لكُنَّ أحسن الجهاد وأجمله الحجُّ؛ حج مبرور". قالت عائشة: فلا أدَعُ الحجَّ، بعد إذ سمعت هذا من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم(6).

*مـا جــاء فـي أنـه يمحــق الذنــوب

1ـ عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حجَّ، فلم يرفثْ(7)، ولم يَفسُق، رجع كيوم ولدته أُمه"(8). رواه البخاري، ومسلم.
2ـ وعن عمرو بن العاص، قال: لما جعل اللّه الإسلام في قلبي، أتيتُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقلت: ابْسُطْ يَدكَ فلأُبايعْك. قال: فبسط، فقبضتُ يَدي، فقال: "مالك يا عمرو ؟". قلت: أشترط. قال: "تشترط ماذا ؟". قلت: أن يُغْفَرَ لي ؟ قال: "أما علمت أن الإسلام يهدم ما قبله، وأن الهجرة تهدم ما قبلها، وأن الحج يهدم ما قبله"(9). رواه مسلم.
3ـ وعن عبد اللّه بن مسعود _ رضي اللّه عنه _ أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: "تابعوا(10) بين الحج والعمرة؛ فإنهما يَنفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكيرُ خَبَثَ(11) الحديد، والذهب، والفضـة، وليس للحجَّـة المبرورة ثـواب، إلا الجنة"(12)، رواه النسائي، والترمذي وصححه.

*مـا جــاء فـي أن الحجــاج وفــد الله

عن أبي هريرة، أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: "الحجاج والعُمّار وفدُ اللّهِ، إن دَعوه أجابَهم، وإن استغفروه غفر لهم". رواه النسائي، وابن ماجه، وابن خزيمة، وابن حبان، في "صحيحيهما"، ولفظهما: "وفد اللّه ثلاثة؛ الحاج، والمعتمِر، والغازي"(13).
*مـا جــاء فـي أن الحــج ثوابــه الجنــة
روى البخاري، ومسلم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "العُمرة إلى العمرة كَفَّارةٌ لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء، إلا الجنة"(14).
2ـ وروى ابن جُرَيج بإسناد حسن، عن جابر _ رضي اللّه عنه _ أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: "هذا البيتُ دعامة الإسلام، فمن خرج يَؤمُّ(15) هذا البيت من حاجّ أو مُعتمر، كان مضموناً على اللّه إن قبضه أن يُدخله الجنة، وإن ردَّه ردّه بأجر وغنيمة"(16)
فضــل النفقــة فـي الحــج
عن بريدة، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "النفقة في الحج كالنفقة في سبيل اللّه؛ الدرهم بسبعمائة ضعف"(1). رواه ابن أبي شيبة، وأحمد، والطبراني، والبيهقي، وإسناده حسن.
الحــج يجــب مــرة واحــدة
أجمع العلماء على أن الحج لا يتكرر، وأنه لا يجب في العمر إلا مرة واحدة، إلا أن ينذره، فيجب الوفاء بالنذر، وما زاد فهو تطوُّع؛ فعن أبي هريرة، قال: خطبنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا أيها الناس، إن الله كتب(1) عليكم الحج، فحُجُّوا". فقال رجل: أكلَّ عام، يا رسول اللّه ؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً، ثم قال صلى الله عليه وسلم: "لو قلتُ: نعم. لوجَبت، ولما استطعتم". ثم قال: "ذروني ما تركتكم؛ فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدَعُوه"(2). رواه البخاري، ومسلم.
وعن ابن عباس _ رضي اللّه عنهما _ قال: خطبنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا أيها الناس، كُتِبَ عليكم الحج". فقام الأقرع بن حابس فقال: أفي كل عام، يا رسول اللّه ؟ فقال: "لو قلتها لوجبت، ولو وجبت لم تعملوا بها ولم تستطيعوا، الحج مرة، فمن زاد فهو تطوّع"(3). رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والحاكم وصححه.
وجوبــه علـى الفـــور أو التراخـــي
ذهب الشافعي، والثوري، والأوزاعي، ومحمد بن الحسن إلى أن الحج واجب على التراخي، فيُؤدَّى في أي وقت من العمر، ولا يأثم من وجب عليه بتأخيره متى أداه قبل الوفاة؛ لأن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أَخَّر الحج إلى سنة عشر، وكان معه أزواجه وكثير من أصحابه، مع أن إيجابه كان سنة ست، فلو كان واجباً على الفَور، لما أخّره صلى الله عليه وسلم.
قال الشافعي: فاستدللنا على أن الحج فرضه مرة في العمر، أوله البلوغ، وآخره أن يأتي به قبل موته. وذهب أبو حنيفة، ومالك، وأحمد، وبعض أصحاب الشافعي، وأبو يوسف، إلى أن الحج واجب على الفور؛ لحديث ابن عباس _ رضي اللّه عنهما _ أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: "من أراد الحج، فلْيُعَجِّلْ، فإنه قد يمرض المريض، وتضل الراحلة، وتكون الحاجة". رواه أحمد، والبيهقي، والطحاوي، وابن ماجه.
وعنه، أنه صلى الله عليه وسلم قال: "تعجّلوا الحَجَّ - يعني الفريضة - فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له". رواه أحمد، والبيهقي، وقال: ما يعرض له؛ من مرض أو حاجة(1).
وحمل الأولون هذه الأحاديث على النّدْب، وأنه يستحب تعجيله والمبادرة به، متى استطاع المكلف أداءه.
شــروط وجــوب الحــج
اتفق الفقهاء على أنه يشترط لوجوب الحج الشروط الآتية: 1ـ الإسلام.
2ـ البلوغ.
3ـ العقل.
4ـ الحرية.
5ـ الاستطاعة.
فمن لم تتحقق فيه هذه الشروط، فلا يجب عليه الحج.
وذلك أن الإسلام، والبلوغ، والعقل، شرط التكليف في أية عبادة من العبادات.
وفي الحديث، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رُفِع القلم عن ثلاث؛ عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يشب، وعن المعتوه حتى يعقل"(1).
والحرية شرط لوجوب الحج؛ لأنه عبادة تقتضي وقتاً، ويشترط فيها الاستطاعة، بينما العبد مشغول بحقوق سيده، وغير مستطيع.
وأما الاستطاعة؛ فلقول الله تعالى: " وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً (2)" [آل عمران: 97].
بم تتحقــق الاستطاعـــة ؟
 تتحقق الاستطاعة، التي هي شرط من شروط الوجوب، بما يأتي:
 1ـ أن يكون المكلف صحيح البدن، فإن عجز عن الحج؛ لشيخوخة، أو زَمَانَة، أو مرض لا يرجى شفاؤه، لزمه إحجاج غيره عنه إن كان له مال، وسيأتي في "مبحث الحج عن الغير".
2ـ أن تكون الطريق آمنة، بحيث يأمن الحاج على نفسه وماله. فلو خاف على نفسه من قطاع الطريق، أو وباء، أو خاف على ماله من أن يسلب منه، فهو ممن لم يستطع إليه سبيلاً.
وقد اختلف العلماء، فيما يؤخذ في الطريق من المَكْس والكوشان، هل يعد عذراً مسقطاً للحج أم لا ؟ ذهب الشافعي، وغيره، إلى اعتباره عذراً مُسقطاً للحج، وإن قل المأخوذ وعند المالكية، لا يُعَدُّ عذراً، إلا إذا أجحف بصاحبه، أو تكرر أخذه.
3، 4 _ أن يكون مالكاً للزاد والراحلة.
والمعتبر في الزاد، أن يملك ما يكفيه مما يصح به بدنه، ويكفي من يعوله كفاية فاضلة عن حوائجه الأصلية؛ من ملبس، ومسكن، ومركب، وآلة حرفة(3)، حتى يؤدي الفريضة ويعود.
والمعتبر في الراحلة، أن تمكنه من الذهاب والإياب؛ سواء أكان ذلك عن طريق البر، أو البحر، أو الجو وهذا بالنسبة لمن لا يمكنه المشي؛ لبعده عن مكة. فأما القريب الذي يمكنه المشي، فلا يعتبر وجود الراحلة في حقه؛ لأنها مسافة قريبة يمكنه المشي إليها. وقد جاء في بعض روايات الحديث، أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فسر السبيل بالزاد والراحلة؛ فعن أنس _ رضي اللّه عنه _ قال: قيل: يا رسول اللّه، ما السبيل(4) ؟ قال: "الزَّادُ والرَّاحلةُ"(5). رواه الدارقطني وصححه.
قال الحافظ: والراجح إرساله، وأخرجه الترمذي من حديث ابن عمر أيضاً، وفي إسناده ضعف، وقال عبد الحق: طرقه كلها ضعيفة.
وقال ابن المنذر: لا يثبت الحديث في ذلك مسنداً، والصحيح رواية الحسن المرسلة. وعن علي _ رضي اللّه عنه _ أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: "من ملك زاداً وراحلة تبلغه إلى بيت اللّه ولم يَحُجَّ؛ فلا عليه أن يموت، إن شاء يهوديّاً، وإن شاء نصرانيّاً؛ وذلك أن اللّه تعالى يقول: "وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً *(6) [ أل عمران: 97 ]. رواه الترمذي، وفي إسناده هلال بن عبد اللّه وهو مجهول، والحارث كذّبه الشعبي، وغيره.
والأحاديث، وإن كانت كلها ضعيفة، إلا أن أكثر العلماء يشترط لإيجاب الحج، الزاد والراحلة لمن نأتْ داره، فمن لم يجد زاداً ولا راحلة، فلا حج عليه.
قال ابن تيمية: فهذه الأحاديث؛ مسندة من طرق حسان، ومرسلة، وموقوفة، تدل على أن مناط الوجوب الزاد والراحلة، مع علم النبي صلى الله عليه وسلم أن كثيراً من النـاس يقـدرون علـى المشي. وأيضاً، فإن الله قـال فـي الحـج: " مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً " [ آل عمران: 97]. إما أن يعني القدرة المعتبرة في جميع العبادات - وهو مطلق المكنة - أو قدراً زائداً على ذلك؛ فإن كان المعتبر الأول، لم تحتج إلى هذا التقييد، كما لم يحتج إليه في آية الصوم والصلاة، فعلم أن المعتبر قدر زائد على ذلك، وليس هو إلا المال.
وأيضاً، فإن الحج عبادة مفتقرة إلى مسافة، فافتقر وجوبها إلى ملك الزاد والراحلة، كالجهاد.
ودليل الأصل(7) قوله تعالى: " لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ " [ التوبة 91، 92].
وفي "المهذب": وإن وجد ما يشتري به الزاد والراحلة، وهو محتاج إليه لدَيْنٍ عليه، لم يلزمه، حالاً كان الدين أو مؤجلاً؛ لأن الدين الحال على الفور والحج على التراخي، فقُدِّم عليه، والمؤجل يحلُّ عليه، فإذا صرف ما معه في الحج، لم يجد ما يقضي به الدَّيْن.
قال: وإن احتاج إليه لمسكن لابدَّ من مثله، أو خادم يحتاج إلى خدمته، لم يلزمه. وإن احتاج إلى النكاح، وهو يخاف العَنَتَ، قدَّم النكاح؛ لأن الحاجة إلى ذلك على الفور، وإن احتاج إليه في بضاعة يتَّجر فيها؛ ليحصِّل منها ما يحتاج إليه للنفقة، فقد قال أبو العباس بن صريح: لا يلزمه الحج؛ لأنه محتاج إليه، فهو كالمسكن والخادم.
وفي "المغني": إن كان دَينُ على مليء باذل له يكفيه للحج، لزمه؛ لأنه قادر. وإن كان على معسر، أو تعذَّر استيفاؤه عليه، لم يلزمه.
وعند الشافعية، أنه إذا بذل رجل لآخر راحلة من غير عوض، لم يلزمه قبولها؛ لأن عليه في قبول ذلك منّة، وفي تحمل المنة مشقة، إلا إذا بذل له ولده ما يتمكن به من الحج لزمه؛ لأنه أمكنه الحج من غير منّةٍ تلزمه. وقالت الحنابلة: لا يلزمه الحج ببذل غيره له، ولا يصير مستطيعاً بذلك؛ سواء كان الباذل قريباً أو أجنبياً، وسواء بذل له الركوب والزاد أو بذل له مالاً.
5ـ ألا يوجد ما يمنع الناس من الذهاب إلى الحج كالحبس، والخوف من سلطان جائر يمنع الناس منه.
حـج الصبــي والعبــد
لا يجب عليهما الحج، لكنهما إذا حجا صح منهما، ولا يجزئهما عن حجة الإسلام؛ قال ابن عباس _ رضي اللّه عنهما _: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أيما صبي حج، ثم بلغ الحِنْث(1)، فعليه أن يحج حجة أخرى، أيما عبد حج، ثم أعتق، فعليه أن يحج حجة أخرى"(2). رواه الطبراني بسند صحيح.وقال السائب بن يزيد: حج أبي مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وأنا ابن سبع سنين(3). رواه أحمد، والبخاري، والترمذي، وقال: قد أجمع أهل العلم على أن الصبي إذا حج قبل أن يُدْرِكَ، فعليه الحج إذا أدرك، وكذلك المملوك إذا حج في رقه ثم أعتق، فعليه الحج إذا وجد إلى ذلك سبيلاً.
وعن ابن عباس _ رضي اللّه عنهما _ أن امرأة رفعت إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم صبياً، فقالت: ألهذا حجٌّ ؟ قال: "نعم(4)، ولك أجر(5)"(6).
وعن جابر _ رضي اللّه عنه _ قال: حججنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ومعنا النساء والصبيان، فلبينا عن الصبيان، ورمينا عنهم(7). رواه أحمد، وابن ماجه.
ثم إن كان الصبي مميزاً، أحرم بنفسه، وأدّى مناسك الحج، وإلا أحرم عنه وليه(8)، ولبَّى عنه وطاف به وسعى، ووقف بعرفة، ورمى عنه، ولو بلغ قبل الوقوف بعرفة أو فيها، أجزأ عن حجة الإسلام، كذلك العبد إذا أعتق.
وقال مالك، وابن المنذر: لا يجزئهما؛ لأن الإحرام انعقد تطوعاً، فلا ينقلب فرضاً.
حــــج المــــرأة
يجب على المرأة الحج كما يجب على الرجل، سواء بسواء، إذا استوفت شرائط الوجوب التي تقدم ذكرها، ويزاد عليها بالنسبة للمرأة، أن يصحبها زوج أو محرم(1).
فعـن ابن عباس _ رضي اللّه عنهما _ قال: سمعـت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقـول: "لا يَخْلُوَنَّ رجل بامرأة، إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر المرأة، إلا مع ذي محرم". فقام رجل فقال: يا رسول اللّه، إن امرأتي خرجت حاجّة، وإني اكتتبت في غزوة كذا، وكذا. فقال: "انطلق، فحُجَّ(2) مع امرأتك"(3). رواه البخاري، ومسلم، واللفظ لمسلم.
وعن يحيى بن عباد، قال: كتبت امرأة من أهل الرَّيِّ إلى إبراهيم النخعي: إني لم أحج حجة الإسلام، وأنا موسرة ليس لي ذو محرم. فكتب إليها: إنك ممن لم يجعل اللّه له سبيلاً.
وإلى اشتراط هذا الشرط، وجعله من جملة الاستطاعة ذهب أبو حنيفة، وأصحابه، والنخعي، والحسن، والثوري، وأحمد، وإسحق.
قال الحافظ: والمشهور عند الشافعية اشتراط الزوج، أو المحرم، أو النسوة الثقات، وفي قول: تكفي امرأة واحدة ثقة. وفي قول - نقله الكرابيسي، وصححه في "المهذب" - تسافر وحدها، إذا كان الطريق آمناً.
وهذا كله في الواجب؛ من حج أو عمرة.
وفي "سبل السلام": قال جماعة من الأئمة: يجوز للعجوز السفر من غير محرم.
وقد استدل المجيزون لسفر المرأة من غير محرم ولا زوج - إذا وجدت رفقة مأمونة، أو كان الطريق آمناً - بما رواه البخاري، عن عَديّ بن حاتم، قال: بينا أنا عند رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، إذ أتاه رجل فشكا إليه الفَاقَةَ، ثم أتاه آخر، فشكا إليه قطع السبيل، فقال: "يا عدي، هل رأيت الحِيرَة(َ4)؟" قال: قلت: لم أرها، وقد أنبئت عنها. قال: "فإن طالت بك حياة، لترين الظَّعِينَةَ(5) ترتحل من الحيرة، حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا اللّه"(6).
واستدلوا أيضاً، بأن نساء النبي صلى الله عليه وسلم حججن بعد أن أذن لهنّ عمر في آخر حجة حجها، وبعث معهنّ عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف(7).
وكان عثمان ينادي: ألا يدنو أحد منهن، ولا ينظر إليهن. وهن في الهوادج على الإبل. وإذا خالفت المرأة وحجت دون أن يكون معها زوج أو محرم، صح حجها.
وفي "سُبل السلام": قال ابن تيمية: إنه يصح الحج من المرأة بغير محرم، ومن غير المستطيع، وحاصله، أن من لم يجب عليه الحج؛ لعدم الاستطاعة، مثل المريض، والفقير، والمعضوب، والمقطوع طريقه، والمرأة بغير محرم، وغير ذلك، إذا تكلفوا شهود المشاهد، أجزأهم الحج.
ثم منهم من هو محسن في ذلك، كالذي يحج ماشياً، ومنهم من هو مسيء في ذلك، كالذي يحج بالمسألة، والمرأة تحج بغير محرم، وإنما أجزأهم؛ لأن الأهلية تامة، والمعصية إن وقعت في الطريق، لا في نفس المقصود.
وفي "المغني": لو تَجشَّمَ غير المستطيع المشقة، وسار بغير زاد وراحلة فحج، كان حجه صحيحاً مجزئاً.
استئــذان المــرأة زوجهــا
يستحب للمرأة أن تستأذن زوجها في الخروج إلى الحج الفرض، فإن أذن لها خرجت، وإن لم يأذن لها خرجت بغير إذنه؛ لأنه ليس للرجل منع امرأته من حج الفريضة؛ لأنها عبادة وجبت عليها، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولها أن تعجل به؛ لتبرئ ذمتها، كما لها أن تصلي أول الوقت، وليس له منعها، ويليق به الحج المنذور؛ لأنه واجب عليها كحجة الإسلام، وأما حج التطوع فله منعها منه؛ لما رواه الدارقطني، عن ابن عمر _ رضي اللّه عنهما _ عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم - في امرأة كان لها زوج ولها مال، فلا يأذن لها في الحج - قال: "ليس لها أن تنطلق، إلا بإذن زوجها"(1).
من مات وعليه حج

من مات وعليه حجة الإسلام أو حجة كان قد نذرها، وجب على وليه أن يجهز من يحج عنه من ماله، كما أن عليه قضاء ديونه؛ فعن ابن عباس _ رضي اللّه عنهما _ أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن أمي نذرت أن تحج ولم تحج، حتى ماتت، أفأحج عنها ؟ قال: "نعم، حُجّي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته ؟ اقضوا اللّه، فاللّه أحق بالوفاء"(1). رواه البخاري.

وفي الحديث دليل على وجوب الحج عن الميت؛ سواء أوصى أم لم يُوص؛ لأن الدَّين يجب قضاؤه مطلقاً، وكذا سائر الحقوق المالية؛ من كفارة، أو زكاة، أو نذر.
وإلى هذا ذهب ابن عباس، وزيد بن ثابت، وأبو هريرة، والشافعي ويجب إخراج الأجرة من رأس المال عندهم. وظاهر، أنه يقدم على دين الآدمي إذا كانت التركة لا تتسع للحج والدَّين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "فاللّه أحق بالوفاء".
وقال مالك: إنما يحج عنه إذا أوصى، أما إذا لم يوص فلا يحج عنه؛ لأن الحج عبادة غلب فيه جانب البدنية، فلا يقبل النيابة. وإذا أوصى، حج من الثلث.
الحـــــج عـن الغيـــــر
من استطاع السبيل إلى الحج، ثم عجز عنه بمرض أو شيخوخة، لزمه إحجاج غيره عنه؛ لأنه أَيسَ من الحج بنفسه لعجزه، فصار كالميت فينوب عنه غيره، ولحديث الفضل بن عباس، أن امرأة من خثعم قالت: يا رسول اللّه، إن فريضة اللّه على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً، لا يستطيع أن يَثْبُت على الراحلة، أفأحج عنه ؟ قال: "نعم". وذلك في حجة الوداع(1). رواه الجماعة، وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقال الترمذي أيضاً: وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب غير حديث، والعمل على هذا عند أهل العلم، من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، يرون أن يحج عن الميت وبه يقول الثوري، وابن المبارك، والشافعي، وأحمد، وإسحق. وقال مالك: إذا أوصى أن يُحَجَّ عنه، حُجَّ عنه.
وقد رخص بعضهم، أن يحج عن الحي إذا كان كبيراً، وبحال لا يقدر أن يحج، وهو قول ابن المبارك، والشافعي(2).
وفي الحديث دليل على أن المرأة يجوز لها أن تحج عن الرجل والمرأة، والرجل يجوز له أن يحج عن الرجل والمرأة، ولم يأت نص يخالف ذلك.
إذا عوفــي المعضــوب(1)
إذا عوفي المريض بعد أن حج عنه نائبه، فإنه يسقط الفرض عنه، ولا تلزمه الإعادة؛ لئلا تفضي إلى إيجاب حجّتين وهذا مذهب أحمد.
وقال الجمهور: لا يجزئه؛ لأنه تبين أنه لم يكن ميئوساً منه، وأن العبرة بالانتهاء.
ورجح ابن حزم الرأي الأول، فقال: إذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالحج عمن لا يستطيع الحج، راكباً ولا ماشياً، وأخبر أن دَيْن اللّه يُقضى عنه، فقد تأدَّى الدَّين بلا شك، وأجزأ عنه.
وبلا شك أن ما سقط وتأدى، فلا يجوز أن يعود فرضه بذلك إلا بنص، ولا نص ههنا أصلاً بعودته، ولو كان ذلك عائداً لبيّن _ عليه الصلاة والسلام _ ذلك؛ إذ قد يَقْوى الشيخ فيطيق الركوب، فإذا لم يخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فلا يجوز عودة الفرض عليه، بعد صحة تأديته عنه.
(1) المعضوب: الزمن الذي لا حراك له..
شــرط الحــج عـن الغيــر
يشترط فيمن يحج عن غيره أن يكون قد سبق له الحج عن نفسه؛ لما رواه ابن عباس _ رضي اللّه عنهما _ أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: لبّيْك عن شبرمة. فقال: "أحَججْتَ عن نفسك ؟" قال: لا. قال: "فَحُجَّ عن نفسك، ثم حُجَّ عن شُبْرُمَةَ"(1). رواه أبو داود، وابن ماجه. قال البيهقي: هذا إسناد صحيح، ليس في الباب أصح منه.
قال ابن تيمية: إن أحمد حكم في رواية ابنه صالح عنه أنه مرفوع، على أنه وإن كان موقوفاً، فليس لابن عباس فيه مخالف.
وهذا قول أكثر أهل العلم: إنه لا يصح أن يحج عن غيره، من لم يحج عن نفسه مطلقاً، مستطيعاً كان أو لا؛ لأن ترك الاستفصال، والتفريق في حكاية الأحوال، دالُّ على العموم.
(1)أبو داود (2 / 403)، 5ـ كتاب المناسك، 26ـ بـاب الرجـل يحـج عن غيره، وابن ماجه (2 / 969)، 25- كتاب المناسك، 9- باب الحج عن الميت..
مـن حــج لنـــذر وعليـه حجــة الإســلام
أفتى ابن عباس، وعكرمة، بأن من حج لوفاء نذر عليه، ولم يكن حج حجة الإسلام، أنه يجزئ عنهما.
وأفتى ابن عمر، وعطاء، بأنه يبدأ بفريضة الحج، ثم يفي بنذره.
لا صــرورة فـي الإســلام
عن ابن عباس _ رضي اللّه عنهما _ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا صَرُورَة في الإسلام"(1). رواه أحمد، وأبو داود.
قال الخطابي: الصرورة تفسر تفسيرين؛ أحدهما، أن الصرورة هو الرجل الذي قد انقطع عن النكاح وتبتل، على مذهب رهبانية النصارى ومنه قول النابغة: لو أنها عرضت لأشمط راهب عبـد الإله صَرُورة متعبد أدنا لبهجتها وحسن حديثها ولخالها رشداً وإن لم يرشد والوجه الآخر، أن الصرورة هو الرجل الذي لم يحج.
فمعناه على هذا، أن سنة الدين ألا يبقى أحد من الناس يستطيع الحج، فلا يحج، فلا يكون صرورة في الإسلام. وقد يستدل به من يزعم، أن الصَّرورة لا يجوز له أن يحج عن غيره.
وتقدير الكلام عنده، أن الصّرورة إذا شرع في الحج عن غيره، صار الحج عنه، وانقلب عن فرضه؛ ليحصل معنى النفي، فلا يكون صرورة. وهذا مذهب الأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وإسحاق. وقال مالك، والثوري: حجه على ما نواه.
وإليه ذهب أصحاب الرأي. وقد روي ذلك عن الحسن البصري، وعطاء، والنخعي.
(1) أبو داود (1729)، والحاكم في "المستدرك" (1 / 448)، والإمام أحمد في "المسند"، (1 / 312)، والطبراني في "الكبير"، والضياء المقدسي في "المختارة"، وضعفه العلامة الألباني في "الضعيفة"، (2 / 130)..
الاقتــــراض للحــــج
عن عبد اللّه بن أبي أوفى، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل لم يحج، أوَ يستقرضُ للحج ؟ قال: "لا"(1). رواه البيهقي.
(1) ما في "سنن البيهقي" (3331)... عن سفيان، عن طارق، قال: سمعت ابن أبي أوفى يسأل عن الرجل يستقرض ويحج ؟ قال: يسترزق اللّه ولا يستقرض. قال: وكنا نقول: لا يستقرض، إلا أن يكون له وفاء..
لحــج مـن مــال حــرام
ويجزئ الحج، وإن كان المال حراماً، ويأثمُ عند الأكثر من العلماء.
وقال الإمام أحمد: لا يجزئ. وهو الأصح؛ لما جاء في الحديث الصحيح: "إنَّ اللّه طيب لا يَقبل إلا طيِّباً"(1). وروي عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا خَرَج الحاجُّ حاجاً بنفقة طيبةٍ(2)، ووضع رِجْله في الغرز(3)، فنادى: لبيك اللهم لبّيك. ناداه منادٍ من السماء: لبيك وسَعْدَيْكَ(4)، زادُك حلال، وراحلتك حلال، وحجّك مبرور، غيرُ مأزور(5) وإذا خرج بالنفقة الخبيثة، فوضع رجله في الغَرْزِ، فنادى: لبيك. ناداه مناد من السماء: لا لَبَّيْكَ ولا سَعْدَيْكَ، زادُك حرام، ونفقتك حرام، وحجك مأزور، غير مأجور"(6).
قال المنذري:
رواه الطبراني في "الأوسط" ورواه الأصبهاني، من حديث أسلم مولى عمر بن الخطاب، مرسلاً مختصراً.
(1) سبق تخريجه. (2) "طيبة": حلال.
(3) "الغرز": ركاب من جلد يعتمد عليه الراكب، حين يركب.
(4) "لبيك": أجاب اللّه حجك، إجابة بعد إجابة.
(5) "مبرور": مقبول لا يخالطه وزر. و"مأزور": جالب للوزر والإثم.
(6) أورده الهيثمي في "المجمع"، وقال: رواه البزار، وفيه سليمان بن داود اليمامي، وهو ضعيف. مجمـع الزوائد (3 / 209).
أيهما أفضل في الحج ، الركوب أم المشي ؟
قال الحافظ في "الفتح": قال ابن المنذر: اخْتُلِفَ في الركوب والمشي للحجاج أيهما أفضل ؟ قال الجمهور: الركوب أفضل؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولكونه أعون على الدعاء والابتهال، ولما فيه من المنفعة. وقال إسحق بن راهويه: المشي أفضل؛ لما فيه من التعب.
ويحتمل أن يقال: يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص.
روى البخاري، عن أنس _ رضي اللّه عنه _ أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى شيخاً يهادى(1) بين ابنيه، فقال: "ما بال هذا ؟" قالوا: نذر أن يمشي. قال: "إن اللّه _ عزّ وجل _ عن تعذيب هذا نفسَه لغني". وأمره أن يركب(2).
(1) يهادى: يعتمد عليهما في المشي.
(2) البخاري: 28 - كتاب جزاء الصيد، 27 - باب من نذر المشي إلى الكعبة. فتح الباري (4 / 78)، ومسلم (3 / 1264) 26 - كتاب النذر، 4 - باب من نذر أن يمشي إلى الكعبة.
التكســب والمكــاري فـي الحــج
لا بأس للحاج أن يتاجر، ويؤاجر، ويتكسب، وهو يؤدي أعمال الحج والعمرة.
قال ابن عباس: إن الناس في أول الحج(1) كانوا يتبايعون بِمنى، وعرفة، وسوق ذي المجاز(2)، ومواسم الحج، فخافوا البيع وهم حرُمٌ، فأنزل الله تعالى: " لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ (3) أَن تَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ " [ البقرة: 198]. في مواسم الحج.
رواه البخاري، ومسلم، والنسائي.
وعن ابن عباس أيضاً، في قوله تعالى: " لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ " [البقرة: 198]. قال: كانوا لا يتَّجرون بمِنى، فأمروا أن يتّجرُوا إذا أفاضوا من عرفات. رواه أبو داود.
وعن أبي أمامة التيمي، أنه قال لابن عمر: إني رجل أُكْرِي(4) في هذا الوجه، وإن ناساً يقولون لي: أنه ليس لك حج. فقال ابن عمر: أليس تحرِمُ وتُلبِّي، وتطوف بالبيت، وتُفِيضُ من عرفات، وترمي الجِمارَ ؟ قال: قلت: بلى. قال: فإن لك حجاً، جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن مثل ما سألتني، فسكت عنه، حتى نزلت هذه الآية: " لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلاً مِن رَّبِّكُمْ " [البقرة: 198]. فأرسل إليه، وقرأ عليه هذه الآية، وقال: لك حج (5). رواه أبو داود، وسعيد بن منصور.
وقال الحافظ المنذري: أبو أمامة لا يعرف اسمه.
وعن ابن عباس _ رضي اللّه عنهما _ أن رجلاً سأله، فقال: أؤجر نفسي من هؤلاء القوم فأنسُكُ معهم المناسك، أَلي أجرٌ ؟ قال ابن عباس: نعم: " أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب (6)" [ البقرة: 202]. رواه البيهقي، والدارقطني.
(1) أي؛ في الإسلام. (2) ذو المجاز: موضع بجوار عرفة.
(3) أي؛ لا إثم عليكم، وأن تبتغوا فضلاً من ربكم مع سفركم؛ لتأدية ما افترضه الله عليكم من الحج، فالإذن في التجارة رخصة، والأفضل تركها.
(4) أكري: أي؛ أؤجر الرواحل للركوب.
(5) أبو داود (2 / 35) 5- كتاب المناسك، 5- باب التجارة في الحج، ولفظه:... فأمروا بالتجارة... وقال المنذري: في إسناده يزيد بن أبي زياد، وقد تكلم فيه جماعة من الأئمة، وأخرج له مسلم في المتابعة.
(6) رواه الحاكم، في "مستدركه"، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.
حجــــة رســــول الله:
روى مسلم، قال: " حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَإِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ جَمِيعاً عَنْ حَاتِمٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَعِيلَ الْمَدَنِيُّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ دَخَلْنَا عَلَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَسَأَلَ عَنِ الْقَوْمِ حَتَّى انْتَهَى إِلَيَّ فَقُلْتُ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ فَأَهْوَى بِيَدِهِ إِلَى رَأْسِي فَنَزَعَ زِرِّي الأَْعْلَى ثُمَّ نَزَعَ زِرِّي الأَْسْفَلَ ثُمَّ وَضَعَ كَفَّهُ بَيْنَ ثَدْيَيَّ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ غُلاَمٌ شَابٌّ فَقَالَ مَرْحَباً بِكَ يَا ابْنَ أَخِي سَلْ عَمَّا شِئْتَ فَسَأَلْتُهُ وَهُوَ أَعْمَى وَحَضَرَ وَقْتُ الصَّلاَةِ فَقَامَ فِي نِسَاجَةٍ مُلْتَحِفاً بِهَا (1) كُلَّمَا وَضَعَهَا عَلَى مَنْكِبِهِ رَجَعَ طَرَفَاهَا إِلَيْهِ مِنْ صِغَرِهَا وَرِدَاؤُهُ إِلَى جَنْبِهِ عَلَى الْمِشْجَبِ (2) فَصَلَّى بِنَا فَقُلْتُ أَخْبِرْنِي عَنْ حَجَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ بِيَدِهِ فَعَقَدَ تِسْعاً فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَثَ تِسْعَ سِنِينَ (3) لَمْ يَحُجَّ ثُمَّ أَذَّنَ فِي النَّاسِ فِي الْعَاشِرَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَاجٌّ فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ بَشَرٌ كَثِيرٌ كُلُّهُمْ يَلْتَمِسُ أَنْ يَأْتَمَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَيَعْمَلَ مِثْلَ عَمَلِهِ فَخَرَجْنَا مَعَهُ حَتَّى أَتَيْنَا ذَا الْحُلَيْفَةِ فَوَلَدَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ فَأَرْسَلَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَيْفَ أَصْنَعُ قَالَ اغْتَسِلِي وَاسْتَثْفِرِي (4) بِثَوْبٍ وَأَحْرِمِي فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ (5) حَتَّى إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ عَلَى الْبَيْدَاءِ نَظَرْتُ إِلَى مَدِّ بَصَرِي بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ رَاكِبٍ وَمَاشٍ وَعَنْ يَمِينِهِ مِثْلَ ذَلِكَ وَعَنْ يَسَارِهِ مِثْلَ ذَلِكَ وَمِنْ خَلْفِهِ مِثْلَ ذَلِكَ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَظْهُرِنَا وَعَلَيْهِ يَنْزِلُ الْقُرْآنُ وَهُوَ يَعْرِفُ تَأْوِيلَهُ وَمَا عَمِلَ بِهِ مِنْ شَيْءٍ عَمِلْنَا بِهِ فَأَهَلَّ (6) بِالتَّوْحِيدِ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ وَأَهَلَّ النَّاسُ بِهَذَا الَّذِي يُهِلُّونَ بِهِ فَلَمْ يَرُدَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِمْ شَيْئاً مِنْهُ وَلَزِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَلْبِيَتَهُ قَالَ جَابِرٌ رَضِي الله عَنْهم لَسْنَا نَنْوِي إِلاَّ الْحَجَّ لَسْنَا نَعْرِفُ الْعُمْرَةَ حَتَّى إِذَا أَتَيْنَا الْبَيْتَ مَعَهُ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ فَرَمَلَ ثَلاَثاً وَمَشَى أَرْبَعاً ثُمَّ نَفَذَ إِلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَم فَقَرَأَ " وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مصلى * فَجَعَلَ الْمَقَامَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَكَانَ أَبِي يَقُولُ وَلاَ أَعْلَمُهُ ذَكَرَهُ إِلاَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * و" َقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الرُّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْبَابِ إِلَى الصَّفَا فَلَمَّا دَنَا مِنَ الصَّفَا قَرَأَ " إِنَّ الصَّفَا والْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ * أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ فَبَدَأَ بِالصَّفَا فَرَقِيَ عَلَيْهِ حَتَّى رَأَى الْبَيْتَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَوَحَّدَ اللَّهَ وَكَبَّرَهُ وَقَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ أَنْجَزَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الأَْحْزَابَ وَحْدَهُ (7) ثُمَّ دَعَا بَيْنَ ذَلِكَ قَالَ مِثْلَ هَذَا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ نَزَلَ إِلَى الْمَرْوَةِ حَتَّى إِذَا انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ فِي بَطْنِ الْوَادِي سَعَى حَتَّى إِذَا صَعِدَتَا مَشَى حَتَّى أَتَى الْمَرْوَةَ فَفَعَلَ عَلَى الْمَرْوَةِ كَمَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا حَتَّى إِذَا كَانَ آخِرُ طَوَافِهِ عَلَى الْمَرْوَةِ فَقَالَ لَوْ أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمْ أَسُقِ الْهَدْيَ وَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ لَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَحِلَّ وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً فَقَامَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلِعَامِنَا هَذَا أَمْ لأَِبَدٍ فَشَبَّكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَصَابِعَهُ وَاحِدَةً فِي الأُْخْرَى وَقَالَ دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ مَرَّتَيْنِ لاَ بَلْ لأَِبَدٍ أَبَدٍ وَقَدِمَ عَلِيٌّ مِنَ الْيَمَنِ بِبُدْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدَ فَاطِمَةَ رَضِي اللَّهم عَنْهَا مِمَّنْ حَلَّ وَلَبِسَتْ ثِيَاباً صَبِيغاً وَاكْتَحَلَتْ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهَا فَقَالَتْ إِنَّ أَبِي أَمَرَنِي بِهَذَا قَالَ فَكَانَ عَلِيٌّ يَقُولُ بِالْعِرَاقِ فَذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَرِّشاً (8) عَلَى فَاطِمَةَ لِلَّذِي صَنَعَتْ مُسْتَفْتِياً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا ذَكَرَتْ عَنْهُ فَأَخْبَرْتُهُ أَنِّي أَنْكَرْتُ ذَلِكَ عَلَيْهَا فَقَالَ صَدَقَتْ صَدَقَتْ مَاذَا قُلْتَ حِينَ فَرَضْتَ الْحَجَّ قَالَ قُلْتُ اللَّهُمَّ إِنِّي أُهِلُّ بِمَا أَهَلَّ بِهِ رَسُولُكَ قَالَ فَإِنَّ مَعِيَ الْهَدْيَ فَلاَ تَحِلُّ قَالَ فَكَانَ جَمَاعَةُ الْهَدْيِ الَّذِي قَدِمَ بِهِ عَلِيٌّ مِنَ الْيَمَنِ وَالَّذِي أَتَى بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِائَةً قَالَ فَحَلَّ النَّاسُ كُلُّهُمْ وَقَصَّرُوا إِلاَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ (9) تَوَجَّهُوا إِلَى مِنًى فَأَهَلُّوا بِالْحَجِّ وَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلاً حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِنْ شَعَرٍ تُضْرَبُ لَهُ بِنَمِرَةَ فَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلاَ تَشُكُّ قُرَيْشٌ إِلاَّ أَنَّهُ وَاقِفٌ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ كَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَصْنَعُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ (10) فَأَجَازَ (11) رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حتى أَتَى عَرَفَةَ فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ فَنَزَلَ بِهَا حَتَّى إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ فَرُحِلَتْ (12) لَهُ فَأَتَى بَطْنَ الْوَادِي (13) فَخَطَبَ النَّاسَ وَقَالَ إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا أَلاَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ كَانَ مُسْتَرْضِعاً فِي بَنِي سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ (14) وَأَوَّلُ رِباً أَضَعُ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لاَ يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَداً تَكْرَهُونَهُ فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْباً غَيْرَ مُبَرِّحٍ وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ كِتَابُ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ قَالُوا نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ فَقَالَ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ (15) يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ اللَّهُمَّ اشْهَدْ اللَّهُمَّ اشْهَدْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ أَذَّنَ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئاً (16) ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَتَى الْمَوْقِفَ فَجَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ إِلَى الصَّخَرَاتِ وَجَعَلَ حَبْلَ الْمُشَاةِ (17) بَيْنَ يَدَيْهِ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفاً حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَذَهَبَتِ الصُّفْرَةُ قَلِيلاً حَتَّى غَابَ الْقُرْصُ وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ خَلْفَهُ وَدَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ شَنَقَ (18) لِلْقَصْوَاءِ الزِّمَامَ حَتَّى إِنَّ رَأْسَهَا لَيُصِيبُ مَوْرِكَ رَحْلِهِ (19) وَيَقُولُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى (20)أَيُّهَا النَّاسُ السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ كُلَّمَا أَتَى حَبْلاً مِنَ الْحِبَالِ أَرْخَى لَهَا قَلِيلاً حَتَّى تَصْعَدَ حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ فَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا شَيْئاً ثُمَّ اضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ وَصَلَّى الْفَجْرَ حِينَ تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبْحُ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَدَعَاهُ وَكَبَّرَهُ وَهَلَّلَهُ وَوَحَّدَهُ فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفاً حَتَّى أَسْفَرَ جِدّاً فَدَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَأَرْدَفَ الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ وَكَانَ رَجُلاً حَسَنَ الشَّعْرِ أَبْيَضَ وَسِيماً (21) فَلَمَّا دَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّتْ بِهِ ظُعُنٌ (22) يَجْرِينَ فَطَفِقَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهِنَّ فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ عَلَى وَجْهِ الْفَضْلِ فَحَوَّلَ الْفَضْلُ وَجْهَهُ إِلَى الشِّقِّ الآْخَرِ يَنْظُرُ فَحَوَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلمَ يَدَهُ مِنَ الشِّقِّ الآْخَرِ عَلَى وَجْهِ الْفَضْلِ يَصْرِفُ وَجْهَهُ مِنَ الشِّقِّ الآْخَرِ يَنْظُرُ حَتَّى أَتَى بَطْنَ مُحَسِّرٍ فَحَرَّكَ قَلِيلاً ثُمَّ سَلَكَ الطَّرِيقَ الْوُسْطَى (23)الَّتِي تَخْرُجُ عَلَى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى حَتَّى أَتَى الْجَمْرَةَ الَّتِي عِنْدَ الشَّجَرَةِ فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا مِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ رَمَى مِنْ بَطْنِ الْوَادِي (24) ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْمَنْحَرِ فَنَحَرَ ثَلاَثاً وَسِتِّينَ بِيَدِهِ ثُمَّ أَعْطَى عَلِيّاً فَنَحَرَ مَا غَبَرَ (25) وَأَشْرَكَهُ فِي هَدْيِهِ ثُمَّ أَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ (26) فَجُعِلَتْ فِي قِدْرٍ فَطُبِخَتْ فَأَكَلاَ مِنْ لَحْمِهَا وَشَرِبَا مِنْ مَرَقِهَا ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَفَاضَ إِلَى الْبَيْتِ (27) فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ فَأَتَى بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَسْقُونَ عَلَى زَمْزَمَ فَقَالَ انْزِعُوا (28) بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَلَوْلاَ أَنْ يَغْلِبَكُمُ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِكُمْ (29) لَنَزَعْتُ مَعَكُمْ فَنَاوَلُوهُ دَلْواً فَشَرِبَ مِنْهُ "(30).
قال العلماء: واعلم، أن هذا حديث عظيم مشتمل على جمل من الفوائد، ونفائس من مهمات القواعد. قال القاضي عياض: قد تكلم الناس على ما فيه من الفقه، وأكثروا، وصنف فيه أبو بكر بن المنذر جزءاً كبيراً، أخرج فيه من الفقه مائة ونيفاً وخمسين نوعاً. قال: ولو تقصى، لَزِيدَ على هذا العدد قريب منه.
قالوا: وفيه دلالة على أن غسل الإحرام سُنة للنفساء والحائض، ولغيرهما بالأولى. وعلى استثفار الحائض والنفساء، وعلى صحة إحرامهما، وأن يكون الإحرام عقب صلاة فرض أو نفل، وأن يرفع المحرم صوته بالتلبية، ويستحب الاقتصار على تلبية النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا زاد فلا بأس؛ فقد زاد عمر: لبيك، ذا النعماء والفضل الحسن، لبيك، مرهوباً منك، ومرغوباً إليك(31).
وأنه ينبغي للحاج القدوم أولاً إلى مكة؛ ليطوف طواف القدوم، وأن يستلم الركن _ الحجر الأسود _ قبل طوافه، ويرمل في الثلاثة الأشواط الأولى، والرَمل؛ أسرع المشي مع تقارب الخطا، وهو الخَبَبُ. وهذا الرمل يفعله، ما عدا الركنين اليمانيّين.
ثم يمشي أربعاً على عادته، وأنه يأتي بعد تمام طوافه مقام إبراهيم، ويتلو: " وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلَّى " [البقرة: 125].
ثم يجعل المقام بينه وبين البيت، ويُصلي ركعتين، ويقرأ فيهما في الأولى - بعد الفاتحة _ سورة "الكافرون" وفي الثانية - بعد الفاتحة - سورة "الإخلاص".
ودل الحديث على أنه يشرع له الاستلام عند الخروج من المسجد، كما فعله عند الدخول.
واتفق العلماء على أن الاستلام سنة، وأنه يسعى بعد الطواف، ويبدأ من الصفا ويرقى إلى أعلاه، ويقف عليه مستقبل القبلة، ويذكر اللّه تعالى بهذا الذكر، ويدعو ثلاث مرات، ويرمل في بطن الوادي، وهو الذي يقال له: بين الميلين. وهو _ أي؛ الرمَل _ مشروع في كل مرة من السبعة الأشواط، لا في الثلاثة الأول، كما في طواف القدوم بالبيت، وأنه يرقى أيضاً على المروة كما رقي على الصفا، ويذكر ويدعو، وبتمام ذلك تتم عمرته. فإن حلق أو قصر، صار حلالاً.
وهكذا فعل الصحابة، الذين أمرهم صلى الله عليه وسلم بفسخ الحج إلى العمرة.
وأما من كان قارناً، فإنه لا يحلق ولا يقصِّر، ويبقى على إحرامه، ثم في يوم التروية - وهو الثامن من ذي الحجة - يحرم من أراد الحج ممن حلَّ من عُمرته، ويذهب هو ومن كان قارناً إلى مِنى. والسُّنة، أن يصلي بمنى الصلوات الخمس، وأن يبيت بها هذه الليلة، وهي ليلة التاسع من ذي الحجة.
ومن السُّنة كذلك، ألا يخرج يوم عرفة من منى، إلا بعد طلوع الشمس، ولا يدخل عرفات، إلا بعد زوال الشمس، وبعد صلاة الظهر والعصر جميعاً بعرفات؛ فإنه صلى الله عليه وسلم نزل بنمرة وليست من عرفات، ولم يدخل صلى الله عليه وسلم الموقف، إلا بعد الصلاتين.
ومن السنة، أن يصلي بينهما شيئاً، وأن يخطب الإمام الناس قبل الصلاة، وهذه إحدى الخطب المسنونة في الحج.
والثانية - أي؛ من الخطب المسنونة - يوم السابع من ذي الحجة، يخطب عند الكعبة بعد صلاة الظهر.
والثالثة - أي؛ من الخطب المسنونة - يوم النحر.
والرابعة - يوم النّفْر الأول.
وفي الحديث سنن وآداب منها؛ أن يجعل الذهاب إلى الموقف عند فراغه من الصلاتين.
وأن يقف - في عرفات - راكباً أفضل.
وأن يقف عند الصخرات عند موقف النبي صلى الله عليه وسلم، أو قريباً منه.
وأن يقف مستقبل القبلة.
وأن يبقى في الموقف، حتى تغرب الشمس.
ويكون في وقوفه داعياً للّه _ عز وجل _ رافعاً يديه إلى صدره، وأن يدفع بعد تحقق غروب الشمس بالسَّكينة، ويأمر الناس بها إن كان مطاعاً.
فإذا أتى المزدلفة، نزل وصلى المغرب والعشاء جمعاً، بأذان واحد وإقامتين، دون أن يتطوع بينهما شيئاً من الصلوات. وهذا الجمع متفق عليه بين العلماء، وإنما اختلفوا في سببه؛ فقيل: إنه نُسُك. وقيل: لأنهم مسافرون. أي؛ السفر هو العلة لمشروعية الجمع.
ومن السنن؛ المبيت بمزدلفة، وهو مُجمَع على أنه نسك، وإنما اختلفوا في كونه - أي؛ المبيت - واجباً أو سنة، ومن السنة أن يصلي الصبح في المزدلفة، ثم يدفع منها بعد ذلك، فيأتي المشعر الحرام، فيقف به ويدعو، والوقوف عنده من المناسك.
ثم يدفع منه عند إسفار الفجر إسفاراً بليغاً، فيأتي بطن مُحسِّر، فيسرع السّيْرَ فيه؛ لأنه محلٌّ غَضِبَ اللّه فيه على أصحاب الفيل، فلا ينبغي الأناة فيه، ولا البقاء فيه.
فإذا أتى الجمرة - وهي جمرة العقبة - نزل ببطن الوادي، ورماها بسبع حصيات، كل حصاة كحبة البَاقلاء - أي؛ الفول - يكبّر مع كل حصاة.
ثم ينصرف بعد ذلك إلى النحر فينحر، إن كان عنده هدي، ثم يحلق بعد نحره، ثم يرجع إلى مكة فيطوف طواف الإفاضة، وهو الذي يقال له: طواف الزيارة.
ومن بعده يحل له كل ما حَرُمَ عليه بالإحرام، حتى وَطْءُ النساء.
وأما إذا رمى جمرة العقبة، ولم يطف هذا الطواف، فإنه يحل له كل شيء، ما عدا النساء.
هذا هو هَدْيُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في حجِّه، والآتي به مقتدٍ به صلى الله عليه وسلم، وممتثل لقوله: "خُذُوا عني مَنَاسكَكُم"(32). وحجه صحيح.
وإليك تفصيل هذه الأعمال، وبيان آراء العلماء، ومذهب كل منهم في كل عمل من أعمال الحج.
                                            ******** ***
(1) نساجة: ثوب كالطَّيْلَسَان.
(2) مشجب: اسم لأعواد يوضع عليها الثياب، ومتاع البدن "الشماعة".
(3) مكث تسع سنين: أي؛ بالمدينة.
(4) الاستثفار: أن تشد في وسطها شيئاً، وتأخذ خرقة عريضة تجعلها على محل الدم، وتشد طرفيها من قدامها ومن ورائها في ذلك المشدود في وسطها؛ لمنع سيلان الدم.
(5) القَصْوَاءُ: اسم لناقة النبي صلى الله عليه وسلم.
(6) أهل: من الإهلال: وهو رفع الصوت بالتلبية.
(7) "هزم الأحزاب وحده". معناه: هزمهم بغير قتال من الآدميين، ولا بسبب من جهتهم، والمراد بالأحزاب: الذين تحزبوا على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يوم الخندق.
(8) التحريش: الإغراء، والمراد هنا، أن يذكر له ما يقضي عتابها.
(9) يوم التروية: هو اليوم الثامن من ذي الحجة.
(10) كانت قريش في الجاهلية تقف بالمشْعَرِ الحرام، وهو جبل بالمزدلفة، يقال له: قزح. وقيل: إن المشعر الحرام كل المزدلفة، وكان سائر العرب يتجاوزون المزدلفة، ويقفون بعرفات، فظنت قريش أن النبي صلى الله عليه وسلم يقف في المشعر الحرام على عادتهم ولا يتجاوزه. فتجاوزه النبي صلى الله عليه وسلم إلى عرفات؛ لأن اللّه تعالى أمره بذلك، في قوله تعالى: "ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس*. أي؛ سائر الناس العرب، غير قريش، وإنما كانت قريش تقف بالمزدلفة؛ لأنها من الحرم، وكانوا يقولون: نحن أهل حرم اللّه، فلا نخرج منه.
(11) فأجاز: أي؛ جاوز المزدلفة ولم يقف بها، بل توجه إلى عرفات.
(12) فرحلت: أي؛ جعل عليها الرحل (13) بطن الوادي: هو وادي عرفة. (14) موضوع: أي؛ باطل.
(15) فقال بإصبعه السبابة: أي؛ يقلبها ويردها إلى الناس، مشيراً إليهم.
(16) فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما... إلخ". فيه دليل على أنه يشرع الجمع بين الظهر والعصر هناك في ذلك اليوم، وقد أجمعت الأمة عليه، واختلفوا في سببه؛ فقيل: بسبب النسك. وهو مذهب أبي حنيفة، وبعض أصحاب الشافعي. وقال أكثر أصحاب الشافعي: هو بسبب السفر. (17) جبل المشاة: أي؛ مجتمعهم. (18) شنق: أي؛ ضم وضيق.
(19) المورك: الموضع الذي يثني الراكب رجله عليه قدام واسطة الرحل، إذا مل من الركوب.
(20) يقول بيده: أي؛ يشير بها قائلاً: الزموا السكينة وهي الرفق والطمأنينة.
(21) وسيماً: أي؛ جميلاً.
(22) الظعن: جمع ظعينة؛ وهي البعير الذي عليه امرأة، ثم سميت به المرأة مجازاً؛ لملابستها البعير.
(23) قوله: ثم سلك الطريق الوسطى. فيه دليل على أن سلوك هذا الطريق في الرجوع من عرفات سنة، وهو غير الطريق الذي ذهب به إلى عرفات، وكان قد ذهب إلى عرفات من طريق ضب؛ ليخالف الطريق، كما كان يفعل في الخروج إلى العيدين، في مخالفته طريق الذهاب والإياب.
(24) قوله: رمى من بطن الوادي: أي؛ بحيث تكون منى، و عرفات، و المزدلفة عن يمينه، ومكة عن يساره.
(25) قوله: فنحر ثلاثاً وستين... إلخ. فيه دليل على استحباب تكثير الهدي، وكان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في تلك السنة مائة بدنة، و"غبر" أي؛ بقي.
(26) البَضْعَة: أي؛ القطعة من اللحم.
(27) "فأفاض إلى البيت". أي؛ طاف بالبيت طواف الإفاضة، ثم صلى الظهر.
(28) "انزعوا ". أي؛ استقوا بالدلاء، وانزعوها بالرشاء "الحبال".
(29) "فلولا أن يغلبكم الناس..." معناه: لولا خوفي أن يعتقد الناس ذلك من مناسك الحج ويزدحمون عليه، بحيث يغلبونكم ويدفعونكم عن الاستقاء، لاستقيت معكم؛ لكثرة فضيلة هذا الاستقاء.
(30) مسلم (2 / 886) 15ـ كتاب الحج، 19 - باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم.
(31) أخرجه ابن أبي شيبة، في "مصنفه"، انظر "الفتح"، (3 / 479).
(32) رواه البيهقي (5 / 125) وعند النسائي (5 / 270، 24) - كتاب مناسك الحج، 22 - باب الركوب إلى الجمار، وروايته: "خذوا مناسككم"، ومسند أحمد (3 / 318، 366).
تعريف المواقيــت
المواقيت؛ جمع ميقات، كمواعيد وميعاد، وهي مواقيت زمانية، ومواقيت مكانية.
المواقيــت الزمانيــة
هي الأوقات التي لا يصح شيء من أعمال الحج إلا فيها، وقد بينها الله _ تعالى _ في قوله: "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَْهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ " [ البقرة: 189]. وقال: " الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ " [ البقرة: 197]. أي؛ وقت أعمال الحج أشهر معلومات.
والعلماء مجمعون على أن المراد بأشهر الحج شوال وذو القعدة. واختلفوا في ذي الحجة، هل هو بكامله من أشهر الحج، أو عشرٌ منه ؟ فذهب ابن عمر، وابن عباس، وابن مسعود، والأحناف، والشافعي، وأحمد إلى الثاني. وذهب مالك إلى الأول.
ورجّحَه ابن حزم، فقال: قال تعالى: " الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ " [ البقرة: 197]. ولا يطلق على شهرين وبعض آخر أشهر.
وأيضاً، فإن رمي الجمار - وهو من أعمال الحج - يعمل يوم الثالث عشر من ذي الحجة، وطواف الإفاضة - وهو من فرائض الحج - يعمل في ذي الحجة كله، بلا خلاف منهم، فصح أنها ثلاثة أشهر.
وثمرة الخلاف تظهر، فيما وقع من أعمال الحج بعد النحر؛ فمن قال: إن ذا الحجة كله من الوقت. قال: لم يلزمه دم التأخير. ومن قال: ليس إلا العشر منه. قال: يلزمه دم التأخير.
الإحــرام بالحــج قبـــل أشهـــره
ذهب ابن عباس، وابن عمر، وجابر، والشافعي إلى أنه لا يصح الإحرام بالحج، إلا في أشهره(1).
قال البخاري: وقال ابن عمر _ رضي اللّه عنهما _ أشهر الحج؛ شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة. وقال ابن عباس _ رضي اللّه عنهما _ من السُّنة(2) ألا يحرم بالحجِّ، إلا في أشهر الحج.
وروى ابن جرير، عن ابن عباس _ رضي اللّه عنهما _ قال: لا يصلح أن يحرِم أحد بالحج، إلا في أشهر الحج.
ويرى الأحناف، ومالك، وأحمد، أن الإحرام بالحج قبل أشهره يصح مع الكراهة.
ورجح الشوكاني الرأي الأول، فقال: إلا أنه يقوّي المنع من الإحرام، قبل أشهر الحج، أن اللّه - سبحانه - ضرب لأعمال الحج أشهراً معلومة، والإحرام عمل من أعمال الحج، فمن ادَّعى أنه يصح قبلها، فعليه الدليل.
(1)) وقالوا، فيمن أحرم قبلها: أحل بعمرة، ولا يجزئه عن إحرام الحج.
(2) قول الصحابي: من السنة كذا. يعطى حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. أثر ابن عمر، وابن عباس رواهما البخاري تعليقاً، أما أثر ابن عمر فوصله الطبري، والدارقطني، وكذا البيهقي، وقال ابن حجر: والإسنادان صحيحان. وأما أثر ابن عباس فوصله ابن خزيمة، والحاكم، والدارقطني. انظر "الفتح"، (3 / 490).
المواقيــت المكانيــة
المواقيت المكانية؛ هي الأماكن التي يحرم منها من يريد الحج أو العمرة.
ولا يجوز لحاج أو معتمر أن يتجاوزها دون أن يحرم، وقد بيَّنها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم(1).
فجعل ميقات أهل المدينة "ذا الحليفة" [ موضع بينه وبين مكة 450 كيلو متراً يقع في شمالها].
ووقت(2) لأهل الشام "الجحفة" [ موضع في الشمال الغربي من مكة، بينه وبينها 187 كيلو مترا، وهي قريبة من "رابغ"، و "رابغ" بينها وبين "مكة" 204 كيلو مترات، وقد صارت "رابغ" ميقات أهل مصر والشام ومن يمر عليها، بعد ذهاب معالم الجحفة ].
وميقات أهل نجد "قرْن المنازل" [ جبل شرقي مكة، يطلُّ على عرفات، بينه وبين مكة 94 كيلو مترا ].
وميقات أهل اليمن "يَلَمْلَم" [ جبل يقع جنوب مكة، بينه وبينها 54 كيلو مترا ].
وميقات أهل العراق "ذات عرق" [ موضع في الشمال الشرقي لمكة، بينه وبينها 94 كيلو مترا ].
وقد نظمها بعضهم، فقال: عرْق العراق يلملم اليمن وبذي الحليفة يُحرم المدني والشام جحفة إنْ مرَرْت بها ولأهـل نجـد قرْنُ فاستَبِنِ هذه هي المواقيت التي عيّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي مواقيت لكل من مر بها؛ سواء كان من أهل تلك الجهات، أم كان من جهة أخرى(3).
وقد جاء في كلامه صلى الله عليه وسلم قوله: " هن لهن ولمن أتى عليهن من غيرهن، لمن أراد الحج أو العمرة"(4). أي؛ أن هذه المواقيت لأهل البلاد المذكورة ولمن مر بها، وإن لم يكن من أهل تلك الآفاق المعينة، فإنه يحرم منها، إذا أتى مكة قاصداً النسك.
ومن كان بمكة وأراد الحج، فميقاته منازل مكة.
وإن أراد العمرة، فميقاته الحل، فيخرج إليه ويحرِمُ منه، وأدنى ذلك "التنعيم".
ومن كان بين الميقات وبين مكة، فميقاته من منزله.
قال ابن حزم: ومن كان طريقه لا تمر بشيء من هذه المواقيت، فليحرمْ من حيث شاء؛ برّاً أو بحراً.

  1. (1) انظر البخاري: 25 - كتاب الحج، من باب رقم (5) - باب فرض مواقيت الحج، وحتى باب (13) - باب ذات عرق لأهل العراق. فتح الباري (3 / 383، 389)، ومسلم (2 / 838) 15 - كتاب الحج، 2 - باب مواقيت الحـج والعمـرة، وأبو داود (2 / 353) 5- كتـاب المناسـك، 9- باب في المواقيت، والنسائي (5 / 124) 24 - كتاب مناسك الحج، 20 - باب ميقات أهل المدينة.

(2) وقت: أي؛ حدد.
(3) فإذا أراد الشامي الحج فدخل المدينة، فميقاته ذو الحليفة؛ لاجتيازه عليها، ولا يؤخر حتى يأتي "رابغ"، التي هي ميقاته الأصلي، فإن أخر أساء، ولزمه دم عند الجمهور.
(4) البخاري: كتاب الحج _ باب مهل أهل مكة للحج والعمرة، وباب مهل من كان دون المواقيت (الفتح 3 / 450، 454)، ومسلم: كتاب الحج _ باب مواقيت الحج (8 / 81)، وأبو داود: كتاب الحج _ باب في المواقيت، برقم (1738)، والنسائي: كتاب الحج _ باب من كان أهله دون الميقات (5 / 125)..
الإحــرام قبــل الميقــات
قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن من أحرم قبل الميقات أنه محرم، وهل يكره ؟ قيل: نعم؛ لأن قول الصحابة: وقّت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة. يقضي بالإهلال من هذه المواقيت، ويقضي بنفي النقص والزيادة، فإن لم تكن الزيادة محرمة، فلا أقل من أن يكون تركها أفضل.





هو نية أحد النسكين؛ الحج أو العمرة، أو نيتهما معاً، وهو ركن؛ لقول الله تعالى: " وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ " [ البينة: 5]. وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى"(1).
وقد سبق الكلام على حقيقة النية(2)، وأن محلها القلب. قال الكمال بن الهمام: ولم نعلم الرواة لنسكه صلى الله عليه وسلم روى واحدٌ منهم، أنه سمعه صلى الله عليه وسلم يقول: "نويت العمرة. أو: نويت الحج".
                        ****                  *****    ****
(1) تقدم تخريجه، في "فرائض الوضوء". (2) في "باب الوضوء"..
آدابُـــه.


للإحرام آداب ينبغي مراعاتها، نذكرها فيما يلي: (1) النَّظافة ُ: وتتحقق بتقليم الأظافر، وقص الشارب، ونتف الإبط، وحلق العانة، والوضوء أو الاغتسال، وهو أفضل، وتسريح اللحية وشعر الرأس.
قال ابن عمر _ رضي اللّه عنهما _ من السنة، أن يغتسل(1) إذا أراد الإحرام، وإذا أراد دخول مكة. رواه البزار، والدارقطني، والحاكم وصححه.
وعن ابن عباس _ رضي اللّه عنهما _ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن النُّفَساءَ والحائض تغتسل(2) وتُحرم، وتقضي المناسك كلها، غير أنها لا تطوف بالبيت، حتى تَطْهُر"(3). رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وحسّنه.
(2) التَّجردُ من الثياب المخيطة، ولبس ثوبي الإحرام، وهما رداء يَلف النصفَ الأعلى من البدن دون الرأس، وإزارٌ يَلف به النصف الأسفل منه.
وينبغي أن يكونا أبيضين؛ فإن الأبيض أحب الثياب إلى اللّه تعالى؛ قال ابن عباس _ رضي اللّه عنهما: انطلق رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من المدينة بعدما ترجّل وادَّهن، ولبس إزاره ورداءه هو وأصحابه(4). الحديث رواه البخاري.
(3) التَّطيبُ في البدن والثياب، وإن بقي أثره عليه بعد الإحرام(5)؛ فعن عائشة _ رضي اللّه عنها _ قالت: كأني أنظر إلى وبيض(6) الطيب في مَفرِق رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وهو مُحرِم(7). رواه البخاري، ومسلم.
ورويا عنها، أنها قالت: كنت أطَيِّبُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يُحرِمَ، ولحله(8) قبل أن يطوف بالبيت(9).
وقالت: كنا نخرج مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى مكة، فَنَنْضَحُ جِبَاهنا بالسُّكِّ عند الإحرام، فإذا عرقت إحدانا، سال على وجهها، فيراه النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينهانا(10) رواه أحمد، وأبو داود.
(4) صلاةُ ركعتَيْنِ، ينوي بهما سنة الإحرام، يقرأ في الأولى منهما، بعد الفاتحة، سورة "الكافرون"، وفي الثانية سورة "الإخلاص".
قال ابن عمر _ رضي اللّه عنهما _: كان النبي صلى الله عليه وسلم يركع بذي الحُلَيْفَةِ(11) ركعتين(12). رواه مسلم.
وتجزئ المكتوبة عنهما، كما أن المكتوبة تغني عن تحية المسجد.
                               ****                                  ******
للإحرام آداب ينبغي مراعاتها، نذكرها فيما يلي: (1) النَّظافة ُ: وتتحقق بتقليم الأظافر، وقص الشارب، ونتف الإبط، وحلق العانة، والوضوء أو الاغتسال، وهو أفضل، وتسريح اللحية وشعر الرأس.
قال ابن عمر _ رضي اللّه عنهما _ من السنة، أن يغتسل(1) إذا أراد الإحرام، وإذا أراد دخول مكة. رواه البزار، والدارقطني، والحاكم وصححه.
وعن ابن عباس _ رضي اللّه عنهما _ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن النُّفَساءَ والحائض تغتسل(2) وتُحرم، وتقضي المناسك كلها، غير أنها لا تطوف بالبيت، حتى تَطْهُر"(3). رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وحسّنه.
(2) التَّجردُ من الثياب المخيطة، ولبس ثوبي الإحرام، وهما رداء يَلف النصفَ الأعلى من البدن دون الرأس، وإزارٌ يَلف به النصف الأسفل منه.
وينبغي أن يكونا أبيضين؛ فإن الأبيض أحب الثياب إلى اللّه تعالى؛ قال ابن عباس _ رضي اللّه عنهما: انطلق رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من المدينة بعدما ترجّل وادَّهن، ولبس إزاره ورداءه هو وأصحابه(4). الحديث رواه البخاري.
(3) التَّطيبُ في البدن والثياب، وإن بقي أثره عليه بعد الإحرام(5)؛ فعن عائشة _ رضي اللّه عنها _ قالت: كأني أنظر إلى وبيض(6) الطيب في مَفرِق رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وهو مُحرِم(7). رواه البخاري، ومسلم.
ورويا عنها، أنها قالت: كنت أطَيِّبُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يُحرِمَ، ولحله(8) قبل أن يطوف بالبيت(9).
وقالت: كنا نخرج مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى مكة، فَنَنْضَحُ جِبَاهنا بالسُّكِّ عند الإحرام، فإذا عرقت إحدانا، سال على وجهها، فيراه النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينهانا(10) رواه أحمد، وأبو داود.
(4) صلاةُ ركعتَيْنِ، ينوي بهما سنة الإحرام، يقرأ في الأولى منهما، بعد الفاتحة، سورة "الكافرون"، وفي الثانية سورة "الإخلاص".
قال ابن عمر _ رضي اللّه عنهما _: كان النبي صلى الله عليه وسلم يركع بذي الحُلَيْفَةِ(11) ركعتين(12). رواه مسلم.
وتجزئ المكتوبة عنهما، كما أن المكتوبة تغني عن تحية المسجد.
انــــواع الإحــــرام
الإحرامُ أنواعٌ ثلاثةٌ: 1ـ قران. 2 _ وتمتع. 3 _ وإفراد.
وقد أجمع العلماء على جواز كل واحد من هذه الأنواع الثلاثة؛ فعن عائشة _ رضي اللّه عنها _ قالت: خرجنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع، فمنا من أهلَّ بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة، ومنا من أهل بالحج، وأهلّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالحج.
فأما من أهلّ بعمرة، فحلَّ عند قدومه، وأما من أهلَّ بحج أو جمع بين الحج والعمرة، فلم يَحِلّ، حتى كان يوم النَّحْرِ(1). رواه أحمد، والبخاري، ومسلم، ومالك.
معْنَى القِرانِ(2): أن يُحرم من عند الميقات بالحج والعمرة معاً، ويقول عند التلبية: لبيك بحجٍّ وعمرة.
وهذا يقتضي بقاء المحرم على صفة الإحرام، إلى أن يفرغ من أعمال العمرة والحج جميعاً، أو يحرم بالعمرة، ويُدخل عليها الحجَّ قبل الطواف(3).
معْنَى التمتُّعِ: والتمتع؛ هو الاعتمار في أشهر الحج، ثم يَحُجّ من عامه الذي اعتمر فيه.
وسمي تمتعاً؛ للانتفاع بأداء النسكين في أشهر الحج في عام واحد، من غير أن يرجع إلى بلده، ولأن المتمتع يتمتع بعد التحلل من إحرامه بما يتمتع به غير المحرم؛ من لبس الثياب، والطيب، وغير ذلك.
وصفة التمتع؛ أن يحرِمَ من الميقات بالعمرة وحدها، ويقول عند التلبية: لبيك بعمرة. وهذا يقتضي البقاء على صفة الإحرام، حتى يصل الحاج إلى مكة، فيطوف بالبيت، ويسعى بين الصفا والمروة، ويحلق شعره أو يقصره، ويتحلل فيخلع ثياب الإحرام، ويلبس ثيابه المعتادة، ويأتي كل ما كان قد حَرُمَ عليه بالإحرام، إلى أن يجيء يوم التروية، فيحرم من مكة بالحج.
قال في "الفتح": والذي ذهب إليه الجمهور أن التمتع؛ أن يجمع الشخص الواحد بين الحج والعمرة في سفر واحد في أشهر الحج، في عام واحد، وأن يقدم العمرة وألا يكون مكيّاً.
فمتى اختل شرط من هذه الشروط، لم يكن متمتعاً.
معْنَى الإفرادِ: والإفراد؛ أن يحرِمَ من يريد الحج من الميقات بالحج وحده، ويقول في التلبية: لبيك بحج. ويبقى محرماً، حتى تنتهي أعمال الحج، ثم يعتمر بعدُ إن شاء.
     *****   ****   **     *
(1) البخاري: 25 - كتـاب الحج، 34 - باب التمتع والقران والإفراد بالحج. فتح الباري (3 / 421)، ومسلم (2 / 873) 15 - كتاب الحج، 17 - باب بيان وجوه الإحرام، والفتح الرباني ترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني (11 / 143)، وموطأ مالك (1 / 335).
(2) سمي بذلك؛ لما فيه من القران والجمع بين الحج والعمرة بإحرام واحد.
(3) يطلق على هذا لفظ "تمتع" في الكتاب والسنة.
أي أنــواع النســك أفضــل ؟

اختلف الفقهاء في الأفضل من هذه الأنواع(1)؛ فذهبت الشافعية إلى أن الإفراد والتمتع أفضل من القِران؛ إذ إنَّ المفرد أو المتمتع يأتي بكل واحد من النسكين بكمال أفعاله، والقارن يقتصر على عمل الحج وحده.
وقالوا - في التمتع والإفراد - قولان؛ أحدهما، أن التمتع أفضل. والثاني، أن الإفراد أفضل. وقالت الحنفية: القِران أفضل من التمتع، والإفراد والتمتع أفضل من الإفراد.
وذهبت المالكية إلى أن الإفراد أفضل من التمتع والقران وذهبت الحنابلة إلى أن التمتع أفضل من القران ومن الإفراد. وهذا هو الأقرب إلى اليسر، والأسهل على الناس(2). وهو الذي تمناه رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه، وأمر به أصحابه.
روى مسلم، عن عطاء، قال: سمعت جابر بن عبد الله _ رضي الله عنه _ قال: أهللنا - أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم بالحج خالصاً وحده، فقدم النبي صلى الله عليه وسلم صبح رابعة مضت من ذي الحجة، فأمرنا أن نحل، قال: "حلّوا، وأصيبوا النساء". ولم يعزم عليهم(3)، ولكن أحلهن لهم.
فقلنا: لما لم يكن بيننا وبين عرفة إلا خمس، أمرنا أن نُفضي إلى نسائنا، فنأتي عرفة تقطر مذاكيرُنا المنيَّ ! فقام النبي صلى الله عليه وسلم فينا، فقال: "قد علمتم أني أتقاكم للّه، وأصدقكم، وأبركم، ولولا هديي، لحللت كما تحلون، ولواستقبلتُ من أمري ما استدبرت، لم أسُق الهديَ، فحلوا". فحللنا، وسمعنا وأطعنا(4).
                                    *******                                  *******
(1) هذا الاختلاف مبني على اختلافهم في حج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، والصحيح أنه كان قارناً؛ لأنه كان قد ساق الهدي.
(2) لا سيما نحن - المصريين - وأمثالنا ممن لا يسوق معه هدياً، فإن ساق الهدي، كان القِرَانُ أفضل.
(3) لم يعزم عليهم: أي؛ لم يوجبه.
(4) مسلم (2 / 884) 15 - كتاب الحج، 17 - باب بيان وجوه الإحرام.
جــواز إطــلاق الإحــرام
من أحرم إحراماً مطلقاً، قاصداً أداء ما فرض اللّه عليه، من غير أن يُعَيِّن نوعاً من هذه الأنواع الثلاثة؛ لعدم معرفته بهذا التفصيل، جاز وصح إحرامه.
قال العلماء: ولو أهَلَّ ولبى _ كما يفعل الناس _ قصداً للنسك، ولم يسَمِّ شيئاً بلفظه، ولا قصد بقلبه لا تمتعاً، ولا إفراداً، ولا قراناً، صحَّ حجه أيضاً. وفعل واحداً من الثلاثة
طواف القارن والمتمتع وسعيهما وأنه ليس لأهل الحرم إلا الإفراد.
عن ابن عباس، أنه سئل عن متعة الحج ؟ فقال: أهلَّ المهاجرون، والأنصار، وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وأهللنا، فلما قدمنا مكة، قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "اجعلوا إهلالكم بالحج عمرةً، إلا من قلّدَ الهدي". فَطفنا بالبيت وبالصفا والمروة، وأتينا النساء، ولبسنا الثياب.
وقال: "من قلد الهدْيَ، فإنه لا يحل له، حتى يبلغ الهدي محله". ثم أمرنا عشيّة التروية أن نهل بالحج، فإذا فرغنا من المناسك، جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة، فقد تم حَجنا وعلينا الهدْيُ، كما قال اللّه تعالى: " فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ" [البقرة: 196]. إلى أمصاركم(1)، الشاة تَجزي. فجمعوا نسكين في عام بين الحج والعمرة، فإن اللّه أنزله في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأباحه للناس غير أهل مكة؛ قال اللّه تعالى: " ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ " [ البقرة: 196]. وأشهر الحج التي ذكر اللّه تعالى؛ شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، فمن تمتع في هذه الأشهر، فعليه دم أو صوم(2). رواه البخاري.
1ـ وفي هذا الحديث دليل على أن أهل الحرم لا متعة لهم ولا قِران(3)، وأنهم يحجون حجّاً مفرداً، ويعتمرون عمرة مفردة. وهذا مذهب ابن عباس، وأبي حنيفة؛ لقول اللّه تعالى: " ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ " [ البقرة: 196].
واختلفوا في من هم حاضرو المسجد الحرام؛ فقال مالك: هم أهل مكة بعينها. وهو قول الأعرج واختاره الطحاوي ورجحه. وقال ابن عباس، وطاووس، وطائفة: هم أهل الحرم. قال الحافظ: وهو الظاهر.
وقال الشافعي: من كان أهله على أقل مسافة تقصر فيها الصلاة. واختاره ابن جرير. وقالت الأحناف: من كان أهله بالميقات أو دونه، والعبرة بالمقام، لا بالمنشأ.
2ـ وفيه، أن على المتمتع أن يطوف ويسعى للعمرة أولاً، ويُغني هذا عن طواف القدوم الذي هو طواف التحية، ثم يطوف طواف الإفاضة بعد الوقوف بعرفة، ويسعى كذلك بعده.
أما القارن، فقد ذهب الجمهور من العلماء إلى أنه يكفيه عمل الحج، فيطوف طوافاً واحداً(4)، ويسعى سعياً واحداً للحج والعمرة، مثل المفرِد(5).
1ـ فعن جابر _ رضي اللّه عنه _ قال: قَرَن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الحجّ والعمرة، وطاف لهما طوافاً واحداً (6). رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.
2ـ وعن ابن عمر، أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: "من أَهَلَّ بالحج والعمرة، أجزأه طواف واحد وسعي واحد". رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح غريب. وخرجه الدارقطني، وزاد: "ولا يحل منهما، حتى يحل منهما جميعاً"(7).
3ـ وروى مسلم، أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: "طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة، يكفيك لحجك وعمرتك"(8).
وذهب أبو حنيفة إلى أنه لابدَّ من طوافين وسعيين. والأول أولى؛ لقوة أدلته.
4ـ وفي الحديث، أن على المتمتع والقارن هدياً، وأقله شاة، فمن لم يجد هدياً، فليصم ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله(9).
والأولى، أن يصوم الأيام الثلاثة في العشر من ذي الحجة قبل يوم عرفة. ومن العلماء من جوَّز صيامها من أول شوال؛ منهم طاووس، ومجاهد.
ويرى ابن عمر _ رضي اللّه عنهما _ أن يصوم قبل يوم التروية، ويومَ التروية، ويومَ عرفة.
فلو لم يصمها أو يصم بعضها قبل العيد، فله أن يصومها في أيام التشريق؛ لقول عائشة، وابن عمر _ رضي اللّه عنهما _: لم يرخّص في أيام التشريق أن يُصَمْنَ، إلا لمن لا يجد الهدي(10). رواه البخاري.
وإذا فاته صيام الأيام الثلاثة في الحج، لزمه قضاؤها. وأما السبعة الأيام، فقيل: يصومها إذا رجع إلى وطنه. وقيل: إذا رجع إلى رَحله.
وعلى الرأي الأخير يصح صومها في الطريق. وهو مذهب مجاهد، وعطاء. ولا يجب التتابع في صيام هذه الأيام العشرة. وإذا نوى وأحرم، شُرع له أن يلبي.
                                   ********   ****    ******  
(1) أمصاركم: أي؛ أوطانكم.
(2) البخاري: 25 - كتاب الحج، 37 - باب قول اللّه تعالى: "ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام*. فتح الباري (3 / 433).
(3) يرى مالك، والشافعي، وأحمد، أن للمكي أن يتمتع ويقرن بدون كراهة، ولا شيء عليه.
(4) أي؛ طواف الإفاضة بعد الوقوف بعرفة.
(5) والفرق بينهما، أنه في حالة القران يقرن بينهما في نيته عند الإحرام.
(6) الترمذي (3 / 274) 7 - كتاب الحج، 102 _ باب ما جاء أن القارن يطوف طوافاً واحداً.
(7) الترمذي (3 / 275) 7ـ كتاب الحج، 102 _ باب ما جاء أن القارن يطوف طوافاً واحداً، والدارقطني (2 / 257).
(8) مسلم (2 / 879) 15 - كتاب الحج، 17 - باب بيان وجوه الإحرام.
(9) البخاري: 25: كتاب الحج، 37 - باب قول اللّه تعالى: "ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام*. فتح الباري (3 / 433).
(10) البخاري: 3 - كتاب الصوم، 68 - باب صيام أيام التشريق. فتح الباري (4 / 242).



تابع القراءة ..